بقلم: اركان الزيدي
الفنان غازي عبدالله، والمعروف بتوقيعه الشهير على رسوماته الساخرة «غازي».. صاحب الريادة في مدرسة فن الكاريكاتير على المستوى العراقي والعربي، وغازي هو الرسام والخطاط، فهو يجيد الابداعين معاً.. حمل روح وأنفاس بيئته الاجتماعية السائدة بتقاليدها وعاداتها وتراثها وفلكلورها، بسخريتها وحزنها، وبأجناس أناسها المتنوعة، فكانت شخصيات رسوماته التعبيرية اللاذعة من صميم الواقع العراقي حصراً .. فأبتكر شخصية "ابن البلد" وهو يرتدي (اليشماك) بطريقة «الچراوية» البغدادية المعروفة، وقفشاته الساخرة.. مثلما كانت تشاركه شخصية الكردي بزيه الفلكلوري المتميز وببيئته الشمالية.
غازي من مواليد بغداد 1925، وكان الوحيد لأمه الأرملة، يسكن في دار مؤجرة وكانت حالته الاقتصادية تلفها الفاقة والحرمان كباقي كثير من الناس حينذاك، وقد تخرج من المرحلة المتوسطة (الإعدادية) عام 1949، والتحق بالدراسة الثانوية صباحاً، وفي معهد الفنون الجميلة مساءاً.. وقد أختير في لجنة أمانة صندوق المعهد.. كما أقام عدة معارض خلال دراسته في المعهد، وكان يحول أعمال معارضه الى دار المعلمين العالية حيث يعرضها هناك ثم يتركها للأخرين، وكانت موضوعاتها من الاغاني والامثال الشعبية.
وفي السنة الثانية للمعهد ترك غازي الدراسة فيه، وتخرج من الدراسة الثانوية، ثم تم تعيينه في مديرية الاشغال العسكرية في وزارة الدفاع بصفة رسام هندسي، وهناك تعرف على الخطاط صبري الهلالي الذي تعلم على يده فن الخط العربي، أضافة الى تعلمه رسم خرائط المباني والطرق.. وبعدها فتح مكتباً للدعاية والإعلان بالإشتراك مع (الفنان التشكيلي الرائد خليل العزاوي) حيث بدأ بإرسال صور يانصيب لإنشاء المستشفيات كل يوم خميس لنشرها في الصحف المحلية وقتذاك.. وعندما سافر الى مصر كان في استقباله هناك الفنان الشهير (رخا) وكان من المعجبين به، وقد تم تكليفه برسوم الى مجلة (العراق الحديث) التي كانت تصدر في مصر.
كما كانت لدى غازي هواية كرة القدم، حيث أشترك مع المنتخب العراقي في مسابقات دولية في مصر وتركيا وسوريا.. وحتى رسوماته الرياضية كانت متميزة جداً ودقيقة بتفاصيلها العامة.. فضلاً عن هوايته في صيد السمك، وكان ماهراً في ذلك.
يتحدث الرسام غازي عن نفسه قائلا: بدايتي كانت مجرد رغبة في العمل الصحفي، ومما زاد في دفعي للعطاء في هذا المجال هو تشجيع صاحب المجلة ونشره المزيد وبشكل متواصل حتى وجدت نفسي أمام واجب أسبوعي حيث كانت بدايتي في مجلة (قرندل) الأسبوعية عام 1947. ولعل أهم العوامل التي رافقت عملي هذا هو التقدير الفني للرسوم من حيث أصالتها العراقية الشعبية فضلا عن الجانب المادي الذي وجدت فيه تقديرا آخر.
وبعد استمراري في العمل صارت رسومي تنشر في عدة صحف ومجلات أسبوعية كثيرة فمنها: (ابن البلد) و(جفجير البلد) و(المصور) و(جريدة الجريدة) و(لواء الاستقلال) و(بريد الجمعة) و(النداء الاجتماعي) و(جريدة مجلة الاسبوع).. وكانت الكثير من هذه الصحف والمجلات معرضة للغلق والغياب بين حين وآخر لاسباب مادية وقد تعاود الصدور باسم جديد وامتياز جديد.. وكانت أجور الرسوم وحفر كلائشها يرهق ميزانية بعض الصحف والمجلات الأمر الذي يدفعها في كثير من الأحيان أن تعزف عنها أو تضطر إلى إعادة نشر بعض الرسوم والصور بتعليقات جديدة لاتمت إلى الرسم بأي شيء ولمجرد سد الفراغ.. وبعض أصحاب الصحف يعتبر الكاريكاتير مسألة تجميلية ترهق مالية الصحيفة وقد عمد أحد اصحاب الصحف في أواخر الاربعينيات الى تزويدي بقنينة حبر صيني وريشة حتى أقلل من أجور الرسوم التي يدفعها لي وصحفي اخر يقتطع صورة من جريدة أو يستحوذ على كليشتها من المطبعة فيعيد طبعها، كل ذلك حتى يتخلص من دفع نفقات الرسوم والكليشة.
وأن بعض بنايات المطابع كانت أشبه بالخانات تحتوي على غرف متعددة، وفي كل غرفة ادارة لصحيفة ما.. فكانت لاحدى الصحف الاسبوعية إدارة في غرفة داخل مقهى, وأن للرسام الكاريكاتير دور مهم في الصحيفة ورأيها من طرح الكثير من القضايا حيث الذم أو المدح وكان دوري في إعداد الرسوم هو إنجاز مايطلب مني ولكن الشروحات كانت توضع من قبل أصحابها مما اوقعني البعض منها في مشاكل كنت في غنى عنها وجعلني أترك الرسم نهائيا وعلى الاخص السياسة منها مكتفيا بممارسة الأفكار الفنية والاجتماعية والأمثال الشعبية. والكاريكاتير فن صحفي ناقد لاذع ويوضع الرسام على رأس القائمة في الصحيفة او المجلة.
ومن هنا تكون أهمية الرسام وقوته الفنية سلاحا ذا حدين حيث الذم والسخرية والمدح فيستعمل صلاحياته ويبذل جهوده في اظهار الحقيقة، وعلى الرسام أن يتجنب العزف على الوتر الحساس عند التعامل مع الناس.
وعن طريقته في الرسم يقول الفنان غازي: (المعروف عن الرسم الكاريكاتيري أن تكون خطوطه قليلة ومعبرة وشرح قصير.. والرسم لغة عالمية عندما يكون خاليا من الشرح والتعليق ولكنني ارسم هنا بشكل موسع لانني ارسم ابن الشعب ولغرض افهامه إعلاميا كان علي أن أزيد من تفاصيل الصورة والشرح ولكي اجعله يتابع الفكرة ويبتسم لها فيجب أن أضيف للرسم كل ماهو ساخر ومضحك فاخرج له لوحة متكاملة الجوانب يعتز بها فيقطعها من الجريدة بعد اكمال قراءتها وان الكثير من الرسامين يتعامل مع الصورة وكأن القارئ فنان او صحفي في وقت واحد فيرسمها بشكل مختصر ويترك الباقي لتقدير القارئ).
ظهرت اولى رسوم الرسام غازي على صفحات المجلة الفكاهية السياسية (قرندل) عام 1947، وظل يرسم لها حتى آخر عدد منها بعد شهرين من ثورة عام 1958، وكانت مفردات أعماله تعتمد بالاساس على رسم الشخصيات الرئيسة وحواراتها الطويلة المستنبطة عادة من كلمات الأغاني العراقية والأمثال الشعبية والقفشات واللطائف الفكاهية الأخرى السائدة في المجتمع العراقي، فضلاً عن كثرة وضع العديد من التفاصيل المتممة للرسوم.. إذ أمتزجت أعماله مابين الرسم الاكاديمي والخطوط الساخرة بتناسب جميل.. وقد حافظ الفنان غازي على سمة أسلوبه الفني هذا وموضوعاته الشعبية المستلهمة من الواقع العراقي، لغاية آخر كاريكاتير رسمه في حياته.