recent
News

بشار العيسى .. ريشة سورية كردية تحلق من حلب إلى سماء باريس الفنية

بشار العيسى .. ريشة سورية كردية تحلق من حلب إلى سماء باريس الفنية

بقلم: سمير عبد الغني
 
عندما رسم الفنان بشار اسكتشًا بقلم الفحم، كتب له الصديق جمال عجو: "إن الفحم يتحول إلى الماس بفعل الضغط والحرارة... ذلك ما تفعله حضرتك"، بينما كتب حسن أحمد على إحدى لوحاته أنها "دوا للعين".
 
كنت أبحث فيما كتب بشار لأعرفه أكثر، فقرأت شذرات من الذاكرة: "ربما من مجموعة الغرائب المبثوثة في الحكايات، التي تنثرها النجوم والليالي على القرى، لحقتني لوثة غريبة، لوثة الانجذاب إلى الأحلام بالدخول إليها بوهم صياغة عالم أكثر رحابة من الواقع، (شديد القسوة والجفاف) ولليوم ما زلت أطلق فيه العنان لأحلامي (شهواتي ورغباتي الملونة مثل طيور الزلزليك الثلجية)، أطارد الأشباح والوقائع المتقصفة لأحيلها إلى فسحات وهمية ومساند شجيرات ظليلة، أعيد بها ضبط حدود بستاني المنعزل، وأبني داخله ملاهي حلمية ووقائع متخيلة، مشهدًا، مشهدًا، مما خزَّنته الذاكرة من الحكايات والأغاني، وما روته سهرات البيادر الصيفية عن التقاء نجمتي سُعد، "ليلى ومجنون" ولا تلتقيان، أو انفتاح أبواب السماء السبعة التي تطل من قبة المجرة "درب التبانة" المضيء على مملكتي المشدودة كخيمة، إلى الدروب وظلال بيوت السعدية وتل سكر بين ظاهرتي الصباح والغروب".
 
بدأت أقول لنفسي الآن بدأت أعرف بشار العيسى .. هذا العنيد الصلب .. المعارض للقبح .. الهارب من الظلم وديكتاتورية الأغبياء... الباحث عن اليوتوبيا... والحالم بالمستحيل .. هو يرسم كي يعيد المشهد لما يتمنى أن يراه .. فإذا رسم المشهد كما هو .. فسيكون الأمر شديد البؤس يحفر في الذاكرة جروحًا لا تلتئم ويملأ العين بالدموع ويحجب عنها الرؤية.
 
 
الفنان بشار العيسى
الفنان السوري بشار العيسى

من حلب، مهد الحضارات ومدينة الأصالة، انطلقت مسيرة فنان استثنائي هو بشار العيسى، فنان سوري كردي حمل في وجدانه عمق تراثه الشرقي، ومزجه ببراعة مع روح الحداثة الغربية في باريس، ليقدم للعالم تجربة فنية فريدة تتجاوز الحدود واللغات، يتميز العيسى بقدرة مذهلة على تحويل أدق تفاصيل حياته، ذكرياته العائلية، وحتى "ثرثرته" التي لا تنتهي، إلى خطوط وألوان تنبض بالإبداع، لن تفلت أبدًا من الغواية وستصبح أسير إبداعه.
 
تُشكل هوية بشار العيسى الكردية جزءًا لا يتجزأ من روحه الفنية، فهي ليست مجرد انتماء جغرافي، بل هي منبع للقصص، الأساطير، والحكايات التي لا تنتهي .. لقد سمعها من الجدات واقترب من الأشجار لتحكي له التاريخ السري للعشاق واقترب أكثر من جدران البيوت فعرف كل الخبايا .. والألوان الترابية الدافئة التي غالبًا ما تسيطر على لوحاته، في أعماله، تشعر بصدى الجبال الشاهقة، وحكايات الأجداد العريقة، وبساطة الحياة الريفية التي طبعت بداياته في الدرباسية (مسقط رأسه)، مصدر الوله والحنين وأحلام طفولته، هذا الارتباط العميق بجذوره يمنح أعماله أصالة وعمقًا، ممزوجًا بشغف الفنان بالتعبير عن الذات والآخر، لقد خُلِق بشار ليحكي كتابة أو رسمًا، ولو تصدّر المسرح وأمامه جمهور كبير لصار بشار كبير الحكائيين.
 
يُعرف بشار العيسى بحبه للحديث وسرد القصص وتبادل الأحاديث الطويلة، ما قد يراه البعض "ثرثرة" يتحول في عالمه الفني إلى وقود للإبداع، كل حكاية عن طفولته العفوية، عن عائلته، عن تفاصيل حياته اليومية، تُترجم إلى خطوط جريئة، وأشكال تجريدية، وألوان متناغمة. إنه فنان يحوّل السرد الشفوي إلى لوحات تشكيلية، وكأن كل كلمة تُقال تتحول إلى لون أو خط على قماشة، هذا التفاعل المستمر بين حياته الشخصية وفنه هو ما يمنح أعماله طابعًا إنسانيًا صادقًا وجذابًا، ويجعله قريبًا من روح الإنسانية .. حين يصمت بشار فهو يستجمع كل القوى الخفية كي يصرخ على الورق .. خُلِق بشار وهو يعرف معنى الألم ويستطيع أن يعبر عنه بكل بساطة وعظمة.
 
 
من أعمال الفنان بشار العيسى
من أعمال الفنان السوري بشار العيسى
 
قدم بشار العيسى على مدار مسيرته الفنية الغنية العديد من المعارض الفردية والجماعية في مدن كبرى مثل بيروت وباريس، ومؤخرًا في مصر، كل معرض يمثل محطة جديدة في رحلته الإبداعية، حيث يعرض فصولًا مختلفة من رؤيته الفنية، كل معرض هو علامة لمن يريد أن يبحث أو يدون خريطة الإبداع في مشرقنا العربي.
 
من أبرز مشاركاته كانت في غراند باليه بباريس عام 1986 ضمن معرض "المقارنات"، وهو ما يؤكد على حضوره القوي في الساحة الفنية الأوروبية المرموقة، كما أقام معرضه الأول في مصر عام 2022 في "بيت جلال" بالقاهرة، والذي استمر لمدة شهر وشمل ورش عمل وندوات، رغم أنه لم يكن موجودًا لكن فنه المؤثر والفاعل كان أحد أسباب هذا الاحتفاء كما أن الحب الذي يملأ أعماله منح مريديه الرغبة في التعبير عن هذه المشاعر المتبادلة.
 
سمات مميزة في لوحات بشار العيسى
تتسم لوحات بشار العيسى بالتنوع، لكن يمكن ملاحظة بعض الثيمات المتكررة والأساليب المميزة:
• يعتمد على غنى لوني وتراتب أشبه بالموسيقى البصرية، حيث تنساب الألوان بتناغم لتخلق تجريدات تعبر عن مشاعر وأفكار عميقة تتجاوز الواقع الملموس.
• يظهر في العديد من أعماله صور لنساء، غالبًا ما يطلق عليهن "حاملات القش" أو "نسوة يخرجن من العتمة"، تظهر هذه الشخوص بتكوينات محنطة وأزياء تلتف حولها، وكأنها مسافرات أو متروكات على الطريق، تتحولن إلى حجارة أو تلال، هذه الشخوص تعكس جانبًا من الذاكرة الجغرافية والريفية لسوريا وكردستان، مع لمسة من الخيال والرمزية السريالية التي تثير التأمل.
• تتناغم الذاكرة الشخصية والجغرافيا الواسعة في لوحاته، مشكلة وحدة لونية دافئة، يُعيد الفنان تجذير علاقة المبدع بالمكان ومدى صدق التفاعل وعمق الرؤية البصرية.
• في بعض أعماله ومحاضراته، يتحدث عن "مشهدية العين الكردية" التي ترى "جدارًا محترقًا وأفقًا لا متناهيًا ونسوة يخرجن من العتمة"، مما يدل على تأثره العميق بالواقع والتاريخ الكردي السوري، وقدرته على ترجمة هذه المشاهد البصرية إلى تعبيرات فنية.
• "الخروج من الجحيم، بابا عمرو، حمص 2012"، هذه اللوحة التي رسمها بالحبر الصيني على الورق، تعكس جانبًا من تجربته ومشاهداته لأحداث سوريا المؤلمة، وتظهر قدرته على التعبير عن الألم والواقع القاسي بأسلوب فني مؤثر ومعبر.
 
 
من أعمال الفنان السوري بشار العيسى
من أعمال الفنان السوري بشار العيسى

لم يكتفِ بشار العيسى بأن يكون فنانًا مبدعًا فحسب، بل امتد تأثيره ليكون معلمًا وملهمًا للعديد من الفنانين. يُعرف عنه شغفه بنقل المعرفة، وبخاصة للجيل الجديد، كان له دور كبير في صقل مواهب طلابه، وإرشادهم نحو اكتشاف صوتهم الفني الخاص، كما يتضح من شهادات الكثيرين الذين يعتبرونه أستاذهم ومرشدهم الأول، وعلى رأسهم الفنان السوري المبدع سرور علواني، إن قدرته على إيقاظ الشرارة الإبداعية في نفوس الآخرين هي ما يجعله قامة فنية ليست فقط في إنتاجه، بل في إسهاماته في إثراء المشهد الفني بشكل عام.
 
بشار العيسى ليس مجرد فنان يرسم لوحات، بل هو راوٍ بصري، يحوّل تجاربه الحياتية وعمقه الكردي إلى أعمال فنية تنبض بالروح، إنه فنان يُثبت أن الإبداع لا يعرف وطنًا، وأنه قادر على مد جسور بين الشرق والغرب، مقدمًا للعالم تحفة فنية تتحدث بلسان الإنسانية جمعاء، بلمسة شخصية عميقة تُترجم فيها كل همسة وكل حكاية إلى عمل فني خالد.
google-playkhamsatmostaqltradent