✍️ بقلم: سمير عبد الغني
من قلب الصعيد، حيث تتشكل الحضارة في كل حبة رمل، جاء الفنان ممدوح سليمان ليحمل معه إرثًا فنيًا غنيًا وجينات إبداع متوارثة، لم يأتِ إلى القاهرة ليكون مجرد فنان عادى بل جاء ليقدم خطًا فنيًا فريدًا يمزج فيه بين عبق الجنوب الساحر وروح الفن الحديث. كانت أعماله بمثابة حوار بين الماضي والحاضر، وبين الأصالة والمعاصرة.
كل خط في لوحات ممدوح سليمان كان يحمل معنى عميقًا، بعضه نابع من فكرة واعية، والآخر من موهبة أصيلة نضجت عبر سنوات من التأمل والتجربة، لم يكن يرسم الأشياء كما هي، بل كان يضفي عليها بصمته الخاصة وحضوره الإنساني، ليحولها إلى حكايات مرئية. لوحاته كانت رواية عن حضارة عظيمة، تُقدم أسرارها من جيل إلى جيل، ويُعيد هو صياغتها بأسلوبه المميز الذي يجمع بين التجريد والتعبير.
شهادة من القلب: الشاعر الذي يرسم
في حوار خاص، يروي ابنه محمود ممدوح سليمان تفاصيل من حياة والده الفنية، قائلًا: كان والدي شاعرًا يرسم على الورق قصائد من نور، ويضيف: أن والده كان دائمًا ما يقول له "تدهشني بكارة الأشياء .. بواكير الأحاسيس رائعة .. تحرك داخلي كوامن ذاتي القلقة .. بين هدير اللون وهمس الصمت أكون"، هذه الكلمات تلخص فلسفة ممدوح سليمان الفنية، التي كانت تتجاوز مجرد الرسم لتلامس جوهر الأشياء.
لم يكن فنه حبيس جدران المرسم، بل كان يحمل أدواته ويتنقل في كل مكان، رسم الفلاحين، والنيل، والأسواق، والمقاهي الشعبية، والموالد، وفرحة الأطفال بالعيد، والأبواب القديمة والبيوت العتيقة، لم يكن يرسم فقط، بل كان ينحت تاريخ مصر الحديث، هذه الجولات الفنية شكلت أساسًا لمشواره الذي بدأ في مراكز الثقافة الجماهيرية عام 1982، وتكلل بالمشاركة في صالون الشباب الأول والثاني.
رحلة فنية تتجاوز الحدود
كان معرضه الأول عام 1989 بسراي النصر بداية لمسيرة حافلة، تلاها معارض مهمة في أتيليه القاهرة عام 1990، والمركز الثقافي الإسباني عام 1993، ومجمع الفنون عام 1993، وأقيم معرض له بالمركز الثقافي الفرنسي في عام 1994، ومن ثم انطلقت أعماله إلى العالمية، حيث عُرضت في المركز الثقافي المصري بباريس عامي 1994 و1995.
وعندما عاد من فرنسا، كان مزهوًا بإعجاب المبدعين هناك الذين وجدوا في رسومه البساطة المدهشة، والجمال الذي يبحثون عنه، أصبح بعدها ضيفًا دائمًا في قاعات العرض، يستعرض أعماله التي تحكي عن أصالة مصر وروحها.
على الرغم من رحيله المبكر عام 2008، عن عمر يناهز 53 عامًا، إلا أن فنه باقٍ ونابض بالحياة، يختتم ابنه حديثه قائلًا: "لا يزال بقلبي وقلوب عشاق إبداعه"، وهو الآن يقوم بتجهيز معرض استعادي لوالده في جاليري "آرت كورنر"، ليقدم للأجيال الجديدة شاهدًا على فنان لم يرسم على الورق فقط، بل ترك لنا تاريخًا من الجمال والحكمة .. سوف يبقى خالدا .. وعنوان للابداع الحقيقى.