بقلم: علي حسين الصميخ
لطالما أستهوتني قصص وحكايا الوجوه التي أستلهم منها مواضيعي لرسم كاريكاتير البورتريه، حيث أنني في رحلة بحث دائمة بين ثنايا وملامح الشخصيات التي أستنطق منها الحس الفكاهي من خلال بلورة العناصر الأساسية التي تتميز بها كاريزما الشخصية الموضوعة، لاسيما أنني ومنذ الطفولة كنت محباً للسير الذاتية لابرز الشخصيات التي غيرت ولازالت تغير في ملامح حضارتنا الانسانية المعاصرة في شتى المجالات.
يمثل الأديب الروائي العالمي نجيب محفوظ أحد هذه الشخصيات الجذابة والتي دفعتني مرارا إلى رسمها، في محاولة مني لسبر أغوار هذه الشخصية، وفهم ابعادها وعمقها الإنساني، سيما وانها شخصية قد نسجت شخصيات أهم أعماله الروائية طالت بذلك تمثل أسقاطاته لجزء من شخصيته كبصمة خاصة به.
وبما أن محفوظ ساهم من خلال مشروعة في بناء جسر كبير بين الفلسفة والعمل الروائي من جهة، وبناء جسر بين شرائح المجتمع وطبقاته ونسج شخوصه بما في ذلك صراعاته وتناقضاته من جهة أخرى، تارة بواقعية وتارة برمزية تتسم بدلالاتها السردية والتاريخية وأسقاطاتها المتنوعة التي قام بتوظيفها لتمرير رسائله و تنبؤاته وانتقاداته لجميع أشكال السلطة المؤسساتية وبشكل غير مباشر في قطعة أدبية مليئة بالانفعالات تمثل نوازع النفس البشرية، لذا فكما يقوم القلم بدوره في التعبير عن الواقع وطرح آفاقه الفلسفية والوجودية ، فإن شقيقته الريشة تمثل أحدى تلك الادوات، والتي وجدت ضالتي كفنان كاريكاتير من خلالها للتعبير عن أنطباعاتي تجاه هذه الشخصية العملاقة.
من هذا المنطلق فقد عمدت على رسم هذه الشخصية من زوايا بصرية متعددة المزاجية، ففي أحد أعمالي لكاريكاتير محفوظ الذي رسمته بإبتسامتة الطفولية متكئا على عكازه، حيث قمت بتوظيف عناصر مستوحاه من موروث الميثولوجيا الدينية والتي ترمز في دلالاتها لصراع الخير والشر كلغة بصرية تحاكي شخصيات الرواية الابرز للكاتب وهي رواية "أولاد حارتنا "، وذلك في محاولة مني لإضفاء على البورتريه تعبيراً أعمق من حيث الرمزية والإيحاء.
أن ما يجعلني أشعر بمساحة واسعة من المرونة والحرية والثقة التي تمكني من توظيف مقومات الكاريكاتير المهمة كالمبالغة والحركة والفكاهة والجو العام للوحة الكاريكاتورية بصورة متكاملة، هو جانب البحث في ملفات الشخصية والإطلاع على طريقة تفكيرها ليس فقط من منظور الأنتاجات الأدبية أو الفنية، أو وثائقيات السير الذاتية التي تتناولها وانما يتسع في ذلك على المقابلات الصحفية والتلفزيونية على الاخص ، حيث يكون لدي إلمام أكبر بجوانب الشخصية وخصائصها السيكولوجية والسلوكية، تماما كما هو الحال مع ممثلي تقليد الشخصيات في البرامج التليفزيونية ، حيث يقوم الممثل بجذب انتباه الجمهور -وفي قالب كوميدي ساخر - بتقليد شخصية مشهورة في نبرة الصوت واللباس والحركات والإيماءات الخاصة بها، ولذلك فإن ما لمسته في شخصية نجيب محفوظ ومن خلال طريقه حديثه في لقاءاته ومقابلاته وما يتسم به من صفات النوابغ كالحكمة وسعة الآفق ..البشاشة والعفوية .. التواضع والبساطة .. تلك البساطة التي قمت برسمها في قالب كاريكاتوري من خلال إختزال الإطار العام للوجه بخطوط بسيطة ورشيقة، مؤكدا بذلك على أهمية الخط كهيكل أساسي في تكامل عملية البناء للعمل الفني.
فكما يقوم قلم نجيب في تسليط الضوء على تفاصيل الشخصيات الهامشية التي لا يلاحظها أحد بين الأزقة، تقوم الريشة كذلك بإبراز التفاصيل في ملامح محفوظ تحت مجهر الكاريكاتير، فشكل النظارة التي ترمي بظلالها على نظراته الثاقبة ، والشامة الضخمة المتمركزة بمحاذاة أنفه، وأذنيه الكبيرتين وكأنهما خلقتا لإصغاء وبتمعن لما يمليه عليه إبداعه، وتلك الجبهة العالية التي تستحق التأمل لقراءة خطوط تجاعيدها ، كما تُقرأ خطوط الكف عند العراف.
أن العمل الفني هو بالدرجة الاولى عمل معرفي تراكمي ذات ديمومة، نتيجة تطور الخبرة والممارسة وبالتالي أختلاف الرؤية للعمل وتطوره، ما يجعله خاضع للتنقيح مرات عديدة حتى ينال الرضى المنشود، ناهيك عن تناول الموضوع لمرات عديدة من زوايا مختلفة، بمعنى أنتاج اعمال فنية عده لتناول موضوع واحد، وليس بالضرورة ان يكون ذلك وفق أجندة مسبقة، أنما لأشباع الشغف تجاه الموضوع ذاته، تماما كما حصل معي في إنتاج كاريكاتيرات محفوظ، فغالبا ما أترك الشغف الذي -يرتكز على المخيلة ويستلهم من الواقع - قيادة الدفة .. هو ذلك الشغف نفسه الذي أوصل محفوظ إلى مرسى العالمية، -ولا أقصد بذلك عن حصوله على جائزة نوبل بجدارة - وإنما اللغة الانسانية التي أرتكز عليها في رواياته ونسجه لشخصياتها التي تحاكي الواقع الانساني متجاوزة بذلك حدود الجغرافيا التي لم يغادرها فيزيائيا.
فبالإضافة إلى طرح الاسئلة الوجودية والفلسفية فأن النقد الرمزي والذي له اسقاطات عدة، ربما أعده من أهم القيم التي تتقاطع معاها أعمال محفوظ مع الكاريكاتير، كونه فن نقدي يستهدف بالدرجة الاولى التابوهات المسكوت عنها.