✍️ بقلم: سمير عبد الغني
عامٌ مضى على رحيل الفنان الكبير محمد حاكم، وما زالت روحه المليئة بالحياة تتردد في أروقة الذكريات، وتضحك في كل زاوية من زوايا القاهرة التي أحبها ورسمها، لم يكن محمد حاكم مجرد رسام كاريكاتير، بل كان فيلسوفًا يرى الحياة بعمق، ويترجمها على الورق بخطوط بسيطة تحمل حكمةً لم يمتلكها الكثيرون، بالنسبة لي، كانت علاقته أشبه بصداقة تتجاوز حدود الزمن، فبينما كانت السنوات تتقدم به في العمر، كانت روحه تزداد شبابًا وحيويةً، وكأنه يرفض أن يكبر.
كانت جلساتنا سويًا لا تُنسى، لم تكن مجرد أحاديث عابرة، بل كانت دروسًا في فن الحياة، كان يمنحني نصائح في التعامل مع البشر، ليس بمنطق الواعظ، بل بمنطق الفنان الذي يرى ما وراء الأقنعة، علمني أن أتعامل مع الناس كلوحات فنية، لكل منها تفاصيلها التي لا يراها إلا من يمتلك عينًا فاحصة، كان يؤمن بأن العالم مليء بالبراءة المختبئة، وأن وظيفة الفنان هي كشف هذا الجمال الخفي، حتى لو كان مغلفًا بالقسوة أو الهموم.
وقبل رحيله، أهداني ما سماه "المفتاح السحري" لعالمه، لم يكن مفتاحًا ماديًا، بل كانت فلسفة حياته التي طالما رددها، شبه الحياة بلعبة "الزهر"، حيث السعادة لا تكمن في الطمع بالرقم المستحيل "سبعة"، بل في الرضا بالرقم الذي يأتينا، كان يقول إن علينا أن نترقب الرقم "واحد" بفرح، حتى إذا جاءنا "اثنين" أو أكثر، نطير من السعادة، هذه الفلسفة لم تكن مجرد كلمات، بل كانت طريقة حياة ترجمها في كل عمل من أعماله، التي جمعت بين البساطة والعمق، والفنتازيا والسخرية اللاذعة.
رحل محمد حاكم، لكن إرثه باقٍ، أعماله في متحف الكاريكاتير بالفيوم وبيت جلال بميدان عابدين ليست مجرد رسوم، بل هي أرشيف حي للشارع المصري، لوحاته تفيض بالحياة، فتشعر وأنت تنظر إليها أنك تشم رائحة الأماكن وتسمع أصوات الأشخاص، كان يمتلك قدرة فريدة على رسم الناس كما هم، بتفاصيلهم الصغيرة التي تفرق بين ابن الصعيد وابن المدينة الساحلية وابن القاهرة، لم يكن مجرد رسام، بل كان دكتورًا في علم الاجتماع، يصور بعينيه "الماسح الضوئي" كل ما يراه، ثم يترجمه إلى فن يلامس الروح.
سأفتقد تلك الضحكة الطفولية التي كانت تملأ المكان، وذلك العقل الفيلسوف الذي كان يحلل البشر والكون بمنطق فريد. رحل محمد حاكم بجسده، لكن روحه التي كانت طفلًا يغار من أخيه، وفيلسوفًا يرى ما لا يراه الآخرون، ورسامًا يترجم أحلام البسطاء على الورق، ستبقى خالدة. ستبقى نصائحه بوصلة في طريق الحياة، وسأظل أرى العالم بعينيه اللتين علمتاني كيف أرى الجمال في كل شيء. فلتكن روحك في سلام، يا صديقي الأبدي.