فن الكاريكاتير فن مشاكس يعد أقسى وأحد سلاح للتغيير.. بلغته النافذة الخاطفة كالبرق السريع.. من خلال خطوط موحية.. وعبارات تضىء على الفكرة المرسومة .. وفى أحيان كثيرة بدون كلام أو تعليق يخاطب الوجدان .. وهو فن يكشف ويواجه ويتصدى بريشة ذكية لماحة .. يرسم البسمة والضحكة على الوجوه.. ويخاطب القلوب والعقول خاصة فى عصرنا المضطرب المسكون بالأزمات وبؤر الصراع .. أداته الرمز بعيداً عن المباشرة والقوالب المحفوظة.
اكتشف الكاتب الصحفى محمد التابعى الفنان الأرميني ألكسندر صاروخان وبدأ معه بروزاليوسف .. وانتقلا منها معًا إلى مجلة آخر ساعة عام 1934 وإلى أخبار اليوم مع الأخوين على ومصطفى أمين أول من أسسا وقدما صحافة مصرية تستمر بلا توقف .. ولقرب صاروخان من الروح المصرية فى الخطوط وتأثيره بلغة الكاريكاتير .. عندما أطلقت روسيا أول صاروخ فى الفضاء..رسم محمد عبد المنعم رخا رسمًا تحية إلى الفنان الكبير وجاء التعليق: "وأحنا كمان عندنا صاروخان!!".
فعندما صدرت صباح الخير بشعار "للقلوب الشابة والعقول المتحررة" برئاسة تحرير الشاب أحمد بهاء الدين .. ظهر غلافها الأول بريشة الفنان زهدى .. الذى قال عنه المفكر محمود أمين العالم: إن كاريكاتير زهدى هو تاريخ مصر السياسى والاجتماعى والقومى.
ومنذ العدد الأول الذى صدر فى 13 يناير 1956 .. فوجئ القراء بكاريكاتير مختلف صارم مدهش ومبهج .. وتعرفوا فى رسوم جاهين على أنفسهم وأقربائهم وزملائهم وجيرانهم ومعارفهم .. وشاهدوا فيها كما يشير الفنان محيى اللباد ولأول مرة الأماكن التى يألفونها: البيوت القاهرية البسيطة والريفية الصغيرة .. ومكاتب موظفى مجمع التحرير والمقاهى والأسواق والدكاكين وعيادات الأطباء ومكاتب المحامين .. مع إعلانات التليفزيون وصور الأمومة والتعليم وعيد الطفولة وطفل الحضانة الباكى .. ليس هذا فقط، بل محو الأمية وتعليم الكبار والعمل فى الحقل.
ويعد فنان الكاريكاتير حجازى بحق فنان الشعب تمامًا مثل بيرم التونسى رائد العامية المصرية..وقد ترك دنيانا بعد أن أبهج وأضحك وأمتع وأبكى وأوجع .. وأحدث انقلابًا فى الكاريكاتير المصرى الحديث مع صلاح جاهين .. كاريكاتير يعد انعكاسًا للواقع الاجتماعى مع علاقته أيضًا بالسياسة .. وشكل أسطورته من تلك البساطة المتناهية .. التى تعيد سيرة السهل الممتنع بخطوطه التى كانت تنساب بريشة فصيحة.
يقول حجازى: أنا أحب الكاريكاتير .. ولقد تعلمت الرسم من كل من سبقونى وكل من جاءوا بعدى .. وتعلمت بطبيعة الحال من صلاح جاهين أكثر ما تعلمت .. فهو الذى أنشأ التحول الأساسى فى خط الكاريكاتير المصرى مغيرًا أسلوب الخطوط. بحيث تكون أكثر تعبيرًا وعمقًا ونفاذًا.
وريشة حجازى من أبسط وأعمق وأذكى الريشات فى عالم الكاريكاتير المصرى والعربى .. كانت بمثابة القنديل بتعبير الكاتب رشاد كامل: الذى أضاء عتمة الصفحات بالألوان المبهجة .. والضحكات الطالعة من أعماق القلب.
ومن بين رواد تلك المدرسة بهجت عثمان الذى تميزت رسومه فى خطوط غنائية رفيعة.. مفعمة بالسخرية من الأصوات الإذاعية وبكائيات فريد الأطرش ووسوسة عبدالوهاب بالمنديل على الأنف .. ومشاجرات سومة وحليم أيهما يغنى أولاً .. ولمع فى المجمع اللغوى ساخرًا من الهوة بين اللغة والحياة .. وهارون الرشيد منتقدًا وضع المرأة فى المجتمع والفرخة والديك .. مستعيرا من حياة الطيور موضوعًا للسخرية من السلوك الإنسانى السلبى.
ولعلنا نتذكر رسوم الفنان صلاح الليثى بشخصيته الخاصة المتميزة .. فمع براعة الفكرة كانت حرارة خطوطه الكثيفة التى تقترب من روح الاسكتش السريع .. ما يجعلها متفردة بين ريشات الكاريكتير المصرى .. وكان من أشهر ما تصدى له من قضايا مشكلة المواصلات .. والتى تحولت ريشته فيها إلى أداة وسلاح للتغيير .. حتى اشتهرت محطة الأتوبيس الواقعة بالقرب من مبنى روزاليوسف بشارع قصر العينى .. بمحطة ليثى من فرط تعلق الناس برسومه ومتابعتهم لها .. وتفاعلهم معها فى الستينيات والسبعينيات .. وهو فى فن الكاريكاتير يضيف مساحة جديدة ومختلفة مسكونة بدنيا التجريب والشخوص والأشكال .. تضاف إلى مساحة نجوم هذا الفن من الجيل الثانى.
وفى فن الكاريكاتير والصورة الشخصية الكاريكاتيرية أو البورتريه تظل أعمال الفنان رجائى ونيس .. حالة تعبيرية خاصة فى الصحافة المصرية تنتمى إلى السحر الكونى والروح السيريالية .. وأسلوبه متفرد فى هذا الاتجاه .. وبتعبير زميله الفنان زهدى: ابتكر لنفسه أسلوبًا فى الكاريكاتير لم يكن موجودًا من قبل.
وبمجىء عام 1914 أقيم الملتقى الدولى الأول للكاريكاتير بقصر الفنون بأرض الأوبرا الذى تنظمه الجمعية المصرية للكاريكاتير .. والتى يرأسها الفنان جمعة .. ومن بداية انطلاقه اختار قضايا تمس المجتمع الدولى على اختلاف بلدان العالم .. وبعد أن كان الموضوع الرئيسى فى البداية "مصرفى عيون رسامى الكاريكاتير" .. ناقش الملتقى الثانى قضايا "الإرهاب والتطرف"، وعالج الثالث "قضية التعليم"، بينما كانت الدورة الرابعة لملتقى الكاريكاتير الدولى .. حول المرأة وقضاياها فى مصر والعالم.
وحملت الدورة الخامسة عنوان "مونديال 2018" .. وتناولت الرياضة بشكل عام مع كرة القدم بمناسبة كاس العالم. وناقش الملتقى السادس 2019 الذى أقيم بقصر الأمير طاز .. موضوع الثقافة كإحد الركائز الأساسية فى بناء الأمم، وشارك فى الدورة الأخيرة مع فنانى مصر 345 فنانًا قدموا 420 عملاً .. من 71 دولة عربية وأجنبية من بينها الصين واليابان وكوريا والبرازيل وروسيا وإندونيسيا وبولندا وأوكرانيا والسعودية والكويت والإمارات والبحرين والمغرب .. بتنظيم الفنان فوزى مرسى قوميسير الملتقى .. شاركت الريشات المصرية العديدة لفنانى الكاريكاتير .. ومعها كاريكاتير فاروق موسى وأدهم لطفى وماهر وعمرصديق وشريف عرفة وخالد المرصفى وأحمد مصطفى مع مجسمات جلال جمعة النحتية وغيرهم.
ومن بين فنانات الكاريكاتير المشاركات الفنانة البولندية .. صاحبة الأسلوب المختلف والمتميز إيزابيلا كوالسكا، ومعها شاركت بنات حواء من الفنانات من مصر والدول العربية: نورا مكرم وهدير يحيى ومروة إبراهيم ورشا مهدى من مصر، وآمنة الحمادى من الإمارات وعفراء يوسف من سوريا ومن الكويت سارة النومس وضحا الناصر ومنى التميم.
وقد تنوعت الأعمال فى أساليب مختلفة .. من الخطوط الكارتونية البسيطة إلى الصور الكاريكاتيرية المدروسة .. والتى تفيض بالأضواء والظلال والأفكار مع التحريف والمبالغات والسخرية .. خاصة ومعظم الأعمال بدون تعليق أو كلمات.
شارك بالملتقى من فنانى كاريكاتير العالم: أريس فنان كوبا الشهير .. الذى يغنى للحرية والسلام ويؤكد شخصية المرأة وكيان وجودها .. وله أعمال تنشد الحب والتعايش الإنسانى بين البشر، كما شارك الفنان الإندونيسى جيتيت كوستانا .. وهو صاحب فكر وأسلوب طليعى سبّاق بالأفكار .. خاصة التى تدين الاعتداء على البيئة.
وعندما سئل كوستانا عن دور الرسوم الكاريكاتورية قال: يمكن صنع الرسوم للترفيه والنقد والثناء والإهانات والدعاية والدفاع والتقاضى.. تلك الخريطة الكارتونية للعالم .. ولكن هناك أيضًا لا.
وهكذا يكون الكاريكاتيرأو الفن الساخر المشاكس .. مهما تغيرت الوسيلة أو الوسيط .. يظل سلاحًا وابتسامة .. رسالة ومعنى وهدفًا .. للبشر فى كل مكان من العالم.